لكن الاتجاه الأساسى للتنمية فى العقد المقبل واضح بما يكفى. إن الرحلة الأوروبية التى استمرت لروسيا ثلاثة قرون قد انتهت، وكان الأفضل أن تنتهى قبل قرن أو أكثر، إذ كان من الممكن عندئذٍ تفادى بعض المآسى الكبرى التى لحقت بالبلاد والشعب فى القرن العشرين، فجميع التهديدات تقريبًا فى ذلك القرن جاءت من أوروبا. لقد حان وقت «العودة إلى الذات»، إلى الوطن، إلى منابع تاريخنا بوصفنا قوة عظمى، وتلك المنابع فى سيبيريا. فلولا الإنجاز الأسطورى لقوات القوزاق الذين تمكنوا، فى أقل من قرن، من الوصول من إقليم بيرم إلى كامتشاتكا، وربط سيبيريا بروس القديمة، لما استطاعت هذه الأخيرة البقاء على قيد الحياة فى السهل الروسى الأوسط المكشوف أمام هجمات الغرب والجنوب.
وأود الآن الانتقال إلى أحد أهم محاور الإستراتيجية الروسية الجديدة: تطوير الهيكل العظمى للنقل، وخاصة فى الاتجاه الطولى (الميريداني). وقد شاءت الظروف أن أكون أحد منظمى الجانب العلمى لمشروع وضع مفهوم ممرات النقل اللوجستية «شمال- جنوب» لروسيا، وربطها بأوراسيا الكبرى.
عند الشروع فى هذا العمل، لا بد من الاعتراف بحقيقة واضحة: إن أسطورة تفوق القوى البحرية والمسارات البحرية، ولا سيما القديمة منها، آخذة فى التلاشى، فهذه الطرق ستزداد هشاشة مع مرور الوقت. وفيما يخص ممرات «شمال- جنوب» فى الجزء الأوروبى من البلاد، هناك كثير من الأفكار. من ذلك الممرات النشطة قيد النقاش، التى تُستخدَم جزئيًّا حول بحر قزوين وعبره إلى إيران وصولًا إلى الخليج، على الرغم مما يكتنفها من مشكلات كبيرة. وهناك فكرة لممر عبر أفغانستان، وأخرى عن «البوسفور الثانى» بمشاركة روسية، فضلًا عن إمكانية ممرات نقل عبر جورجيا وأرمينيا وتركيا، لكن الحاجة الأكثر وضوحًا اليوم هى إلى إنشاء وتطوير هيكلية ممرات لوجستية «شمال- جنوب» تربط روسيا عبر سيبيريا بأسواق آسيا الصاعدة، بأسواق المستقبل.
ومن الطبيعى أن تطوير مفهوم ممرات «شمال- جنوب»، المكمّلة للممرات القائمة «شرق- غرب»، يجب أن يتم بالتنسيق الوثيق مع المتخصصين من الدول الآسيوية المجاورة لنا. وقد أطلق أصدقاؤنا الصينيون مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، وهى مبادرة رائعة. هذه الطرق اللوجستية متاحة للجميع، لكنها ينبغى أن تُستكمل بشبكة طولية من المسارات لتشكيل هيكل لوجستى مستقل لأوراسيا الكبرى.
إن هذه الممرات لا تهدف فقط إلى ضمان التنمية الآمنة والناجحة لدول أوراسيا الكبرى، بل إلى تعميق التفاعل الثقافى والإنسانى الذى قُطع -إلى حد كبير- بفعل هيمنة القوى البحرية الغربية طوال خمسة قرون، والتى عملت عمدًا على تدمير الطرق القارية الداخلية.
وأطرح للنقاش المبادئ الآتية لتطوير الهيكل العظمى اللوجستى «شمال- جنوب»، بالدرجة الأولى لروسيا، وإن لم يكن حصريًّا لها:
المبدأ الأول: الحسابات الاقتصادية ضرورية ولا غنى عنها، لكن العامل الأهم عند صياغة مفهوم هذا الهيكل يجب أن يكون عوامل الأمن والتنمية طويلة المدى. يمكن، بل يجب إشراك القطاع الخاص فى العمل على مشروعات محددة، لكن اللوجستيات الكبرى تبقى (صلاحية حصرية)، وواجبًا على عاتق الدول. لقد استنفد «الاقتصادوية» نفسها، وإن ظل الاقتصاديون ضروريين لمساعدة الإستراتيجيين، وكبح اندفاعهم.
حين كان سيرجى يولييفيتش فيتّه (قبل أن يُمنح لقب كونت) مجرد وزير، وأصرّ أمام الحلفاء على ضرورة بناء سكة حديد سيبيريا (الترانسسيب)، واجه مقاومة شديدة من الممولين والتجار الذين لم يرغبوا فى منافسة نقل العربات التقليدى. ولو لم ينتصر فيتّه لما صمدت روسيا. وأعرف من خلال حديثى مع زملاء حجم المقاومة التى واجهها مشروع بناء جسر فوق نهر لينا فى ياكوتيا. وكان الحجة الرئيسة ضده هى ضعف تدفق النقل فى الوقت الحالى. ولو أن فيتّه أنصت إلى هذه الحجج، لما بُنى الترانسسيب أصلًا، لكنه تمكن من تنظيم حملة دعائية كبرى، واستقطب إليها أعظم عباقرة روسيا، العالم السيبيرى المتألق، ديميترى إيفانوفيتش مندلييف، الذى لم يكن عالمًا عبقريًّا فحسب؛ بل رجل دولة، وصناعيًّا بارزًا. من دون فيتّه لما انتصرت روسيا فى أعنف حرب فى تاريخ البشرية- الحرب العالمية الثانية، أو كما نسمّيها «الحرب الوطنية العظمى».
المبدأ الثانى: يجب نقل مركز التنمية التحتية من الجزء الأوروبى إلى سيبيريا. صحيح أن البنية التحتية فى ما وراء الأورال أكثر فاعلية من الناحية الاقتصادية الضيقة، لكن إذا نظرنا إلى الأفق وما وراءه -وهو المنظور المطلوب عند التخطيط لإستراتيجية لوجستية- فإن مركز بناء النقل، مثلما هى الحال مع المركز الروحى والاقتصادى والثقافى للبلاد، يجب أن ينتقل إلى ما وراء الأورال. وهناك ينبغى تأسيس العاصمة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، من خلال نقل بعض الشركات والوزارات إليها. ويسرّنى أن الدعوات، ومنها دعوتى شخصيًّا، لنقل بعض الشركات إلى المناطق التى تعمل فيها أساسًا، قد استجاب لها فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الذى وقّع على قرار بنقل مقار ما يقرب من ١٥٠ شركة إلى أماكن نشاطها الإنتاجى الرئيس.
* عالم سياسى وخبير اقتصادى روسى
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.